الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الآلة ما اعتملت به من أداة، يكون واحداً وجمعاً. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ.
2 - الأصل في الآلات والأدوات الّتي يستعملها الإنسان في قضاء مآربه أنّ استعمالها مباح. ويعرض لها الحظر أو الكراهية باعتبارات، منها: أ - المادّة المصنوعة منها الآلة: فإن كانت من ذهب أو فضّة أو مطليّةً بأحدهما كره أو حرّم استعمالها، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الشّرب في آنية الذّهب والفضّة والأكل في صحافهما. وتفصيل ذلك في مباحث الآنية. ب - الغرض الّذي تستعمل له كبيع السّلاح في الفتنة، أو للكفّار، أو ممّن يستعمله في الحرام، وكبيع آلات اللّهو. ج - ما تختصّ به الآلة من أثر قد يكون شديد الإيلام أو شديد الخطورة، أو يؤدّي إلى محرّم، فيمنع استعمالها، أو يكره، كالسّمّ في الصّيد أو الجهاد، وكالآلة الكالّة لا تستعمل في استيفاء القصاص أو القطع في حدّ السّرقة، وكالمزفّت والجرار يمنع بعض الفقهاء استعمالها في الانتباذ لئلاّ يسارع إليها التّخمّر. د - التّكريم: كمنع بيع آلة العلم الشّرعيّ للكافر. ويفصّل الفقهاء أحكام كلّ آلة بحسب ما تضاف إليه في الاستعمال الفقهيّ، فآلة الذّبح في مباحث الذّبح، وآلة القصاص في مباحث الجنايات. وتفصيل بعض ذلك فيما يلي:
3 - آلات اللّهو كالطّبل والمزمار والعود، وآلات بعض الألعاب كالشّطرنج والنّرد، محرّمة الاستعمال عند الفقهاء من حيث الجملة. ويباح الطّبل لغير اللّهو كالعرس وطبل الغزاة. وفي هذه الأحكام خلاف وتفاصيل يذكرها الفقهاء في مباحث البيع والإجارة والشّهادة والحدود والحظر والإباحة. آلة الذّبح وآلة الصّيد: 4 - اعتبر الشّرع في آلة الذّبح وآلة الصّيد أن تكون محدّدةً. تنهر الدّم وتفري، وألاّ تكون سنّاً ولا ظفراً، فلا يحلّ ما ذبح بهما أو صيد بهما. وفرّق بعض الفقهاء بين السّنّ والظّفر القائمين، فمنع الذّبح بهما، بخلاف المنزوعين. ولا يحلّ ما أزهقت نفسه بمثقل كالحجر ونحوه. وينبغي تعاهد الآلة لتكون محدّدةً فتريح الذّبيحة. وإن كان المصيد به حيواناً كالكلب والصّقر ونحوهما اعتبر أن يكون معلّماً. ومعنى التّعليم في الجارحة أن تصير بحيث إذا أرسلت أطاعت، وإذا زجرت انزجرت، وقيل بأن تترك الأكل من الصّيد ثلاث مرّات. ويذكر الفقهاء تفصيل ذلك والخلاف فيه في مباحث الصّيد، ومباحث الذّبح.
5 - يجب إعداد العدّة للجهاد، وتجوز مقاتلة العدوّ بالسّلاح المناسب لكلّ عصر، وفي تحريقهم بالنّار وتغريقهم واستعمال السّموم تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مباحث الجهاد. ويجوز إتلاف آلات العدوّ في حال القتال، على تفصيل للفقهاء في مباحث الجهاد.
6 - يستوفى القصاص في النّفس عند جمهور العلماء بالصّفة الّتي وقعت بها الجناية. وعند بعض العلماء لا يستوفى القصاص إلاّ بالسّيف. ولا يستوفى القصاص فيما دون النّفس بآلة يخشى منها الزّيادة. وكذلك القطع في السّرقة. ويرجع لمعرفة تفاصيل ذلك إلى مباحث القصاص وحدّ السّرقة.
7 - الجلد في الحدود يكون بالسّوط. على أنّه يجوز في حدّ الشّرب الضّرب بالأيدي أو النّعال أو أطراف الثّياب. ويستعمل السّوط في إقامة حدّ الزّنا على البكر. وحدّ القذف، وحدّ شرب الخمر. ويجزي منه استعمال عثكال فيه مائة شمراخ في إقامة حدّ الزّنا على البكر، إن كان لا يحتمل الجلد لمرض لا يرجى برؤه. ويلاحظ ألاّ يكون السّوط ممّا يتلف، ولذلك قال بعضهم: لا يكون له ثمرة - يعني: عقدة في طرفه - وقال بعضهم يكون بين الجديد والخلق. أمّا الجلد في التّعزير فقد يكون بالسّوط، أو بما يقوم مقامه ممّا يراه وليّ الأمر. وفي كثير ممّا ذكرناه هنا تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مسائل الحدود والتّعزير.
8 - لا زكاة في آلات العمل للمحترفين، سواء كان ممّا لا تستهلك عينه كالمنشار والقدوم، أو ممّا تستهلك، إلاّ أنّ الآلات الّتي تشترى فتستعمل فيما يباع، كقوارير العطّارين، إن كان من غرض المشتري بيعها بها ففيها الزّكاة عند الحول. وآلات العمل للمحترفين، الّتي هم بحاجة إليها، لا تباع عليهم في حال الإفلاس. ومن كان منهم فقيراً لا يملك آلات عمله، ولا ما يشتريها به، يجوز إعطاؤه من الزّكاة ما يشتريها به، على تفصيل للفقهاء في مباحث الزّكاة والإفلاس.
9 - جناية القتل لا يجب بها القصاص إلاّ إن كانت متعمّدةً، ولمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً ينظر إلى الآلة، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في قتل العمد إلاّ إذا كان بمحدّد، وأمّا ما كان بغيره فليس بعمد، بل هو شبه عمد إذا تعمّد الضّرب به ولا قصاص فيه. وجمهور العلماء لم يوافقوا أبا حنيفة على ذلك، بل يثبت العمد عندهم في القتل بما عدا المحدّد، على تفصيل وخلاف بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك، يذكر في مسائل الجنايات والقصاص.
1 - الآمّة لغةً: شجّة تبلغ أمّ الرّأس، وهي جلدة تجمع الدّماغ. وشجّة آمّة ومأمومة بمعنًى واحد. واستعمل الفقهاء اللّفظين بنفس المعنى اللّغويّ.
2 - هناك ألفاظ وردت في شجّ الرّأس، كالموضحة والهاشمة والمنقّلة والدّامغة إلاّ أنّ لكلّ منها حكمها الخاصّ. وتفصيل ذلك عند الفقهاء في القصاص والدّيات.
3 - أجمع الفقهاء على أنّ في الآمّة ثلث الدّية.
4 - يفصّل الفقهاء أحكام الآمّة في مباحث الجناية على ما دون النّفس، وفي مباحث الدّيات. كما فصّلوا في مباحث الصّوم، مسألة الفطر بوصول شيء إلى الآمّة.
1 - جمهور أهل اللّغة على أنّ آمين في الدّعاء يمدّ ويقصر، وتقول أمّنت على الدّعاء تأميناً، إذا قلت آمين. ويعبّر غالباً بالتّأمين بدلاً من عبارة قول آمين، لسهولة اللّفظ. ولم يعتبر التّأمين عنواناً للبحث، لئلاّ يشتبه بالتّأمين التّجاريّ. ونقل الفقهاء فيه لغات عديدةً، نكتفي منها بأربع: المدّ، والقصر، والمدّ مع الإمالة والتّخفيف، والمدّ مع التّشديد. والأخيرتان حكاهما الواحديّ، وزيّف الأخيرة منهما. وقال النّوويّ: إنّها منكرة. وحكى ابن الأنباريّ القصر مع التّشديد. وهي شاذّة أيضاً. وكلّها إلاّ الرّابعة اسم فعل بمعنى استجب. ومعنى آمّين (بالمدّ مع التّشديد) قاصدين إليك. قال ابن عبّاس: «سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين، فقال: افعل». وقال قتادة: كذلك يكون. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «آمين خاتم ربّ العالمين على عباده المؤمنين». وقال عطاء: آمين دعاء. وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين وتسليم بعضكم على بعض». قال ابن العربيّ: هذه الكلمة لم تكن لمن قبلنا، خصّنا اللّه تعالى بها. حقيقة التّأمين: 2 - التّأمين دعاء، لأنّ المؤمن يطلب من اللّه أن يستجيب الدّعاء. صفته (حكمه التّكليفيّ): 3 - الأصل في قول آمين أنّه سنّة، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى غيره، كالتّأمين على دعاء محرّم، فإنّه يكون حراماً. نفي القرآنيّة عن " آمين»: 4 - لا خلاف في أنّ " آمين " ليست من القرآن، لكنّها مأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد واظب عليها، وأمر بها في الصّلاة وخارجها، كما يعرف من الأحاديث الّتي سترد في خلال البحث. مواطن التّأمين: 5 - التّأمين دعاء غير مستقلّ بنفسه بل مرتبط بغيره من الأدعية، لذلك يحسن بيان المواضع الّتي يؤمّن على الدّعاء فيها، فمن أهمّها: أ - التّأمين في الصّلاة: التّأمين عقب قراءة الفاتحة، وعلى الدّعاء في قنوت الصّبح، والوتر، والنّازلة. ب - والتّأمين خارج الصّلاة: عقب قراءة الفاتحة، والتّأمين على الدّعاء في الخطبة، وفي الاستسقاء.
أوّلاً: التّأمين في الصّلاة التّأمين عقب الفاتحة: 5 م - التّأمين للمنفرد سنّة، سواء أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً. ومثله الإمام والمأموم في السّرّيّة، والمقتدي في صلاة الجهر. أمّا الإمام في الصّلاة الجهريّة فللعلماء فيه ثلاثة آراء: أوّلاً - ندب التّأمين، وهو قول الشّافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة، عدا رواية الحسن عن أبي حنيفة وهو رواية المدنيّين من المالكيّة الحديث: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». ثانياً - عدم النّدب، وهو رواية المصريّين من المالكيّة، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. ودليل عدم استحسانه من الإمام ما روى مالك عن سميّ عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا آمين فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له». وهذا دليل على أنّه لا يقوله، لأنّه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بينه وبين القوم، والقسمة تنافي الشّركة. ثالثاً - وجوب التّأمين، وهو رواية عن أحمد، قال في رواية إسحاق بن إبراهيم: آمين أمر من النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
ارتباط التّأمين بالسّماع: 6 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّه يسنّ التّأمين عند سماع قراءة الإمام، أمّا إن سمع المأموم التّأمين من مقتد آخر فللفقهاء في ذلك رأيان: الأوّل: ندب التّأمين وإليه ذهب الحنفيّة وهو قول للمالكيّة وقول مضعّف للشّافعيّة. الثّاني: لا يطلب التّأمين، وهو المعتمد عند الشّافعيّة والقول الآخر للمالكيّة ولم نقف على نصّ للحنابلة في هذا.
تحرّي الاستماع: 7 - لا يتحرّى المقتدي على الأظهر الاستماع للإمام عند المالكيّة، ومقابله يتحرّى، وهو قول الشّافعيّة.
8 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ الصّلاة إن كانت سرّيّةً فالإسرار بالتّأمين سنّة في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد. وأمّا إن كانت جهريّةً فقد اختلفوا في الإسرار به وعدمه على ثلاثة مذاهب: الأوّل. ندب الإسرار، وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة، إلاّ أنّ المالكيّة استحبّوه بالنّسبة للمأموم والمنفرد فقط، والحنفيّة ومعهم ابن الحاجب وابن عرفة من المالكيّة استحبّوه للجميع، لأنّه دعاء والأصل فيه الإخفاء. لقوله سبحانه: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً} ولقول ابن مسعود رضي الله عنه: أربع يخفيهنّ الإمام، وذكر منها آمين. ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة تخصيص الإسرار بالمأموم فقط إن أمّن الإمام، كسائر الأذكار، وقيل يسرّ في هذه الحالة إن قلّ الجمع. الثّاني: ندب الجهر. وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة، إلاّ أنّ الحنابلة عمّوا النّدب في كلّ مصلّ. ووافقهم الشّافعيّة اتّفاقاً بالنّسبة للإمام والمنفرد. وأمّا في المأموم فقد وافقوهم أيضاً بشرط عدم تأمين الإمام. فإن أمّن فالأظهر ندب الجهر كذلك. وقيل إنّما يجهر في حالة تأمين الإمام بشرط كثرة الجمع. فإن لم يكثر فلا يندب الجهر. واستدلّ القائلون بندب الجهر بأنّه صلى الله عليه وسلم قال " آمين " ورفع بها صوته. الثّالث: التّخيير بين الجهر والإسرار، وبه قال ابن بكير وابن العربيّ من المالكيّة، غير أنّ ابن بكير خصّه بالإمام فقط، وخيّر ابن العربيّ الجميع، وصحّح في كتابه " أحكام القرآن " الجهر. ولو أسرّ به الإمام جهر به المأموم عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ جهر المأموم بالتّأمين سنّة، فلا يسقط بترك الإمام له، ولأنّه ربّما نسيه الإمام، فيجهر به المأموم ليذكّره.
9 - مذهب الشّافعيّة، والأصحّ عند الحنابلة أنّ مقارنة تأمين الإمام لتأمين المأموم سنّة، لخبر «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» وخبر «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السّماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدّم من ذنبه» رواه الشّيخان. ومقابل الأصحّ عند الحنابلة أنّ المقتدي يؤمّن بعد تأمين الإمام. ولم أقف على نصّ صريح في ذلك للحنفيّة والمالكيّة، لكنّهم ذكروا ما يفيد مقارنة التّأمين لتأمين الملائكة، مستدلّين بحديث أبي هريرة السّابق «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السّماء: آمين...» إلخ. وبحديث أبي هريرة أيضاً «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا: آمين، فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». فإن فاتته مقارنة تأمينه لتأمين إمامه أتى به عقبه، فإن لم يعلم المأموم بتأمين إمامه، أو أخّره عن وقته المندوب أمّن. نصّ على ذلك الشّافعيّة، كما نصّوا على أنّه لو قرأ معه وفرغا معاً كفى تأمين واحد، أو فرغ قبله، قال البغويّ: ينتظره، والمختار أو الصّواب أنّه يؤمّن لنفسه، ثمّ يؤمّن للمتابعة.
10 - الشّافعيّة والحنابلة على ندب السّكوت لحظةً لطيفةً بين {ولا الضّالّين} وبين «آمين» ليعلم أنّها ليست من القرآن، وعلى ألاّ يتخلّل في هذه اللّحظة لفظ. نعم، يستثني الشّافعيّة " ربّ اغفر لي " قالوا: وينبغي أنّه لو زاد على ذلك «ولوالديّ ولجميع المسلمين» لم يضرّ أيضاً. ولم أر من الحنفيّة والمالكيّة من تعرّض لهذه النّقطة، فيما وقفت عليه. تكرار آمين والزّيادة بعدها: 11 - يحسن عند الشّافعيّة قول: «آمين ربّ العالمين»، وغير ذلك من الذّكر. ولا يستحبّ عند أحمد، لكن لا تبطل صلاته، ولا يسجد للسّهو عنها. ولم نجد لغير الشّافعيّة والحنابلة نصّاً في التّكرار. وذكر الكرديّ عن ابن حجر أنّه يندب تكرار " آمين " في الصّلاة، مستدلّاً بما رواه وائل بن حجر أنّه قال: «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل الصّلاة، فلمّا فرغ من فاتحة الكتاب، قال: آمين، ثلاثاً» ويؤخذ منه تكرار " آمين " ثلاثاً، حتّى في الصّلاة.
12 - المذاهب الأربعة على أنّ المصلّي لو ترك " آمين " واشتغل بغيرها لا تفسد صلاته، ولا سهو عليه، لأنّه سنّة فات محلّها. عدم انقطاع القراءة بالتّأمين على قراءة الإمام: 13 - إذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة أثناء قراءة المأموم، قال المأموم " آمين " ثمّ يتمّ قراءته، نصّ على ذلك الشّافعيّة والحنابلة. ولا قراءة عند الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة للمأموم.
14 - التّأمين عقب قراءة الفاتحة سنّة عند المذاهب الأربعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لقّنني جبريل عليه السلام، عند فراغي من الفاتحة: آمين ».
15 - القنوت قد يكون في النّازلة وقد يكون في غيرها. وللفقهاء في التّأمين على قنوت غير النّازلة ثلاثة اتّجاهات: الأوّل: التّأمين جهراً، إن سمع الإمام، وإلاّ قنت لنفسه. وهو قول الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة، وهو قول محمّد بن الحسن في القنوت وفي الدّعاء بعده. ومنه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما نصّ الشّافعيّة. وهو المتبادر لغيرهم لدخوله في الشّمول. الثّاني: ترك التّأمين. وإليه ذهب المالكيّة، وهو الأصحّ عند الحنفيّة، وروايةً عن أحمد، وقول ضعيف عند الشّافعيّة. الثّالث: التّخيير بين التّأمين وتركه. وهو قول أبي يوسف، وقول ضعيف للشّافعيّة. ولا فرق بين قنوت النّازلة وقنوت غيرها، عند الشّافعيّة والحنابلة. ولا تأمين في النّازلة عند الحنفيّة لإسرارهم بالقنوت فيها. فإن جهر الإمام أمّن المأموم. قال ابن عابدين: والّذي يظهر لي أنّ المقتدي يتابع إمامه إلاّ إذا جهر فيؤمّن. ولا قنوت في النّازلة عند المالكيّة على المشهور. ولو اقتدى المأموم بمن يقنت في صلاة الصّبح أجاز له الحنابلة التّأمين. ومعهم في ذلك ابن فرحون من المالكيّة. ويسكت من صلّى وراء من يقنت في الفجر عند الحنفيّة. ويراعي المأموم المقتدي بمن لا يقنت حال نفسه عند الشّافعيّة بشرط عدم الإخلال بالمتابعة.
16 - يسنّ التّأمين على دعاء الخطيب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، إلاّ أنّه يكون عند المالكيّة والحنابلة سرّاً، وبلا رفع صوت عند الشّافعيّة. ولا تأمين باللّسان جهراً عند الحنفيّة بل يؤمّن في نفسه. ونصّ المالكيّة على تحريم ما يقع على دكّة المبلّغين بعد قول الإمام: «ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة» من رفع أصوات جماعة بقولهم: «آمين. آمين. آمين» واعتبروه بدعةً محرّمةً.
17 - استحبّ الشّافعيّة والحنابلة، وهو قول للمالكيّة، التّأمين على دعاء الاستسقاء عند جهر الإمام به. ولا يخالف الحنفيّة في ذلك. والقول الآخر للمالكيّة أن يدعو الإمام والمأمومون. وقيل بعد دعائهم معاً يستقبلهم الإمام، فيدعو ويؤمّنون.
18 - لم أجد من يقول بالتّأمين على دعاء الإمام بعد الصّلاة إلاّ بعض المالكيّة. وممّن قال بجوازه ابن عرفة، وأنكر الخلاف في كراهيته. وفي جواب الفقيه العلاّمة أبي مهديّ الغبرينيّ ما نصّه " ونقرّر أوّلاً أنّه لم يرد في الملّة نهي عن الدّعاء دبر الصّلاة، على ما جرت به العادة اليوم من الاجتماع، بل جاء التّرغيب فيه على الجملة». فذكر أدلّةً كثيرةً ثمّ قال " فتحصل بعد ذلك كلّه من المجموع أنّ عمل الأئمّة منذ الأزمنة المتقادمة مستمرّ في مساجد الجماعات، وهو مساجد الجوامع، وفي مساجد القبائل، وهي مساجد الأرباض والرّوابط، على الجهر بالدّعاء بعد الفراغ من الصّلوات، على الهيئة المتعارفة الآن، من تشريك الحاضرين، وتأمين السّامعين، وبسط الأيدي، ومدّها عند السّؤال، والتّضرّع والابتهال من غير منازع». وكرهه مالك وجماعة غيره من المالكيّة، لما يقع في نفس الإمام من التّعاظم. وبقيّة القائلين بالدّعاء عقب الصّلاة يسرّون به ندباً، على تفصيل. (ر: دعاء).
1 - الآنية جمع إناء، والإناء الوعاء، وهو كلّ ظرف يمكن أن يستوعب غيره. وجمع الآنية أوان. ويقاربه الظّرف، والماعون. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن الاستعمال اللّغويّ. ثانياً: أحكام الآنية من حيث استعمالها:
2 - الآنية بالنّظر إلى ذاتها أنواع: آنية الذّهب. والفضّة - الآنية المفضّضة - الآنية المموّهة - الآنية النّفيسة لمادّتها أو صنعتها - آنية الجلد - آنية العظم - آنية من غير ما سبق.
3 - هذا النّوع محظور لذاته، فإنّ استعمال الذّهب والفضّة حرام في مذاهب الأئمّة الأربعة، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة». ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في آنية الفضّة، فقال: «من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب فيها في الآخرة». والنّهي يقتضي التّحريم. والعلّة في تحريم الشّرب فيها ما يتضمّنه ذلك من الفخر وكسر قلوب الفقراء. والنّهي وإن كان عن الأكل والشّرب، فإنّ العلّة موجودة في الطّهارة منها واستعمالها كيفما كان. وإذا حرم الاستعمال في غير العبادة ففيها أولى، وفي المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً. فإن توضّأ منها، أو اغتسل، صحّت طهارته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة، لأنّ فعل الطّهارة وماءها لا يتعلّق بشيء من ذلك، كالطّهارة في الأرض المغصوبة. وذهب بعض الحنابلة إلى عدم صحّة الطّهارة، لأنّه استعمل المحرّم في العبادة، فلم يصحّ كالصّلاة في الدّار المغصوبة. والتّحريم عامّ للرّجال والنّساء.
4 - فقهاء المذاهب يختلفون في حكم استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة: فعند الإمام أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام محمّد، ورواية عن الشّافعيّ، وقول بعض الحنابلة، أنّه يجوز استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة إذا كان المستعمل يتّقي موضع الفضّة. وعند أكثر الحنابلة أنّه يجوز الاستعمال إذا كانت الفضّة قليلةً. وعند المالكيّة في المفضّضة روايتان: إحداهما المنع، والأخرى الجواز، واستظهر بعضهم الجواز. وأمّا الآنية المضبّبة فلا يجوز عندهم شدّها بالذّهب أو الفضّة. والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز استعمال المضبّب بالذّهب، كثرت الضّبّة أو قلّت، لحاجة أو غيرها. وذهب بعضهم إلى أنّ المضبّب بالذّهب كالمضبّب بالفضّة، فإن كانت كبيرةً، ولغير زينة، جازت، وإن كانت للزّينة حرمت وإن كانت قليلةً. والمرجع في الكبر والصّغر العرف. وعند الحنابلة أنّ المضبّب بالذّهب والفضّة إن كان كثيراً فهو محرّم بكلّ حال، ذهباً كان أو فضّةً، لحاجة ولغيرها. وقال أبو بكر يباح اليسير من الذّهب والفضّة. وأكثر الحنابلة على أنّه لا يباح من الذّهب إلاّ ما دعت إليه الضّرورة. وأمّا الفضّة فيباح منها اليسير. قال القاضي ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها. وقال أبو الخطّاب لا يباح اليسير إلاّ لحاجة. وتكره عندهم مباشرة موضع الفضّة بالاستعمال، كي لا يكون مستعملاً لها. وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يكره استعمال الإناء المضبّب والمفضّض، وهي الرّواية الأخرى عن محمّد. وحجّة الإمام أبي حنيفة ومن وافقه أنّ كلّاً من الذّهب والفضّة تابع، ولا معتبر بالتّوابع، كالجبّة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثّوب، ومسمار الذّهب في الفصّ. وحجّة من جوّز قليل الفضّة للحاجة «أنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتّخذ مكان الشّعب سلسلةً من فضّة»، وأنّ الحاجة تدعو إليه، وليس فيه سرف ولا خيلاء، فأشبه الضّبّة من الصّفر (النّحّاس). وممّن رخّص في ضبّة الفضّة من السّلف عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وابن المنذر وإسحاق بن راهويه، وغيرهم.
5 - مذهب الحنفيّة، وهو أحد قولين عند المالكيّة، أنّ الآنية المموّهة بالذّهب أو الفضّة جائز استعمالها، لكنّ الحنفيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان التّمويه لا يمكن تخليصه. قال الكاسانيّ: «وأمّا الأواني المموّهة بماء الذّهب والفضّة، الّذي لا يخلص منه شيء، فلا بأس بالانتفاع بها، والأكل والشّرب وغير ذلك بالإجماع». وأمّا ما يمكن تخليصه فعلى الخلاف السّابق بين الإمام وصاحبيه في مسألة المفضّض والمضبّب. وعند الشّافعيّة يجوز الاستعمال إذا كان التّمويه يسيراً. وعند الحنابلة أنّ المموّه والمطليّ والمطعّم والمكفّت كالذّهب والفضّة الخالصين. أمّا آنية الذّهب والفضّة إذا غشيت بغير الذّهب والفضّة ففيها عند المالكيّة قولان. وأجازها الشّافعيّة إذا كان ساتراً للذّهب والفضّة، لفقدان علّة الخيلاء.
6 - الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة نفاستها إمّا لذاتها (أي مادّتها)، وإمّا لصنعتها:
7 - المنصوص عليه عند الحنفيّة والحنابلة، وهو الأصحّ في مذهب المالكيّة والشّافعيّة، أنّه يجوز استعمال الأواني النّفيسة، كالعقيق والياقوت والزّبرجد، إذ لا يلزم من نفاسة هذه الأشياء وأمثالها حرمة استعمالها، لأنّ الأصل الحلّ فيبقى عليه. ولا يصحّ قياسها على الذّهب والفضّة لأنّ تعلّق التّحريم بالأثمان (الذّهب والفضّة)، الّتي هي واقعة في مظنّة الكثرة فلم يتجاوزه. وقال بعض المالكيّة: إنّه لا يجوز استعمال الأواني النّفيسة، لكنّ ذلك ضعيف جدّاً. وهو قول عند الشّافعيّة.
8 - النّفيس بسبب الصّنعة، كالزّجاج المخروط وغيره لا يحرم بلا خلاف. وذلك ما قاله صاحب المجموع، ولكن نقل الأذرعيّ أنّ صاحب البيان في زوائده حكى الخلاف أيضاً فيما كانت نفاسته بسبب الصّنعة، وقال: إنّ الجواز هو الصّحيح.
9 - قال فقهاء المذاهب الأربعة: إنّ جلد كلّ ميتة نجس قبل الدّبغ، وأمّا بعد الدّبغ فالمشهور عند المالكيّة والحنابلة أنّه نجس أيضاً. وقالوا إنّ ما ورد من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «أيّما إهاب دبغ فقد طهر» محمول على الطّهارة اللّغويّة (أي النّظافة) لا الشّرعيّة. ومؤدّى ذلك أنّه لا يصلّى به أو عليه. وغير المشهور في المذهبين أنّه يطهر الجلد بالدّباغة الطّهارة الشّرعيّة، فيصلّى به وعليه. ويروى القول بالنّجاسة عن عمر وابنه عبد اللّه وعمران بن حصين وعائشة، رضي الله عنهم. وعن الإمام أحمد رواية أخرى، أنّه يطهر من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في حال الحياة. وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة ويحيى الأنصاريّ وسعيد بن جبير، وغيرهم. وعند الشّافعيّة أنّه إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذّبح شيء من أجزائه، ويجوز الانتفاع بجلده. وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه، كما ينجس بموته، فلا يطهر جلده ولا شيء من أجزائه. وكلّ حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدّباغ، عدا الكلب والخنزير، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيّما إهاب دبغ فقد طهر» ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة على الجلد، ويصلحه للانتفاع به، كالحياة. ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلد فكذلك الدّباغ. أمّا الكلب والخنزير وما تولّد منهما فلا يطهر جلدهما بالدّباغ. وعند الحنفيّة أنّ جلد الميتة، عدا الخنزير والآدميّ ولو كافراً، يطهر بالدّباغة الحقيقيّة كالقرظ وقشور الرّمّان والشّبّ، كما يطهر بالدّباغة الحكميّة، كالتّتريب والتّشميس والإلقاء في الهواء. فتجوز الصّلاة فيه وعليه، والوضوء منه. وعدم طهارة جلد الخنزير بالدّباغة لنجاسة عينه، وجلد الآدميّ لحرمته، صوناً لكرامته، وإن حكم بطهارته من حيث الجملة لا يجوز استعماله كسائر أجزاء الآدميّ.
10 - الآنية المتّخذة من عظم حيوان مأكول اللّحم مذكًّى يحلّ استعمالها إجماعاً. وأمّا الآنية المتّخذة من حيوان غير مأكول اللّحم، فإن كان مذكًّى فالحنفيّة يرون أنّها طاهرة، لقولهم بطهارة القرن والظّفر والعظم، مستدلّين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان يمتشط بمشط من عاج»، وهو عظم الفيل، فلو لم يكن طاهراً لما امتشط به الرّسول صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلّ على جواز اتّخاذ الآنية من عظم الفيل. وهو أحد رأيين عند الشّافعيّة، ورأي ابن تيميّة. وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ العظم والسّنّ والقرن والظّلف كالشّعر والصّوف، لا يحسّ ولا يألم، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما حرم من الميتة أكلها». وذلك حصر لما يحرم من الميتة فيبقى ما عداها على الحلّ. والرّأي الآخر للشّافعيّة أنّه نجس، وهو المذهب.
11 - وأمّا إن كان العظم من حيوان غير مذكًّى (سواء كان مأكول اللّحم أو غير مأكوله) فالحنفيّة ومن معهم على طريقتهم في طهارته، ما لم يكن عليه دسم، فلا يطهر إلاّ بإزالته. وقال الشّافعيّة وأكثر المالكيّة والحنابلة: العظم هنا نجس، ولا يطهر بحال. هذا وقد أجمع الفقهاء على حرمة استعمال عظم الخنزير، لنجاسة عينه، وعظم الآدميّ - ولو كافراً - لكرامته. 12 - وألحق محمّد بن الحسن الفيل بالخنزير لنجاسة عينه عنده. وألحق الشّافعيّة الكلب بالخنزير. وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز عظام الفيلة. ورخّص في الانتفاع بها محمّد بن سيرين وغيره وابن جرير، لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادةً من عصب وسوارين من عاج». واستدلّ القائلون بالنّجاسة بقوله تعالى {حرّمت عليكم الميتة} والعظم من جملتها، فيكون محرّماً، والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس ذكّي أو لم يذكّ. وقال بعض المالكيّة: إنّ استعمال عظم الفيل مكروه. وهو ضعيف. وفي قول للإمام مالك: إنّ الفيل إن ذكّي فعظمه طاهر، وإلاّ فهو نجس.
13 - الأواني من غير ما تقدّم ذكره مباح استعمالها، سواء أكانت ثمينةً كبعض أنواع الخشب والخزف، وكالياقوت والعقيق والصّفر، أم غير ثمينة كالأواني العادية، إلاّ أنّ بعض الآنية لها حكم خاصّ من حيث الانتباذ فيها، فقد نهى الرّسول عليه الصلاة والسلام أوّلاً عن الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت ثمّ نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلاّ في ظروف الأدم، فاشربوا في كلّ وعاء غير ألاّ تشربوا مسكراً». وجمهور أهل العلم على جواز استعمال هذه الآنية على أن يحذر من تخمّر ما فيها نظراً إلى أنّها بطبيعتها يسرع التّخمّر إلى ما ينبذ فيها. وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه كره الانتباذ في الآنية المذكورة. ونقل الشّوكانيّ عن الخطّابيّ أنّ النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية لم ينسخ عند بعض الصّحابة والفقهاء ومنهم ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم، ومالك وأحمد وإسحاق.
14 - (آنية أهل الكتاب): ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو أحد القولين عند الحنابلة إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب، إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها. فقد نصّ الحنفيّة على أنّ " سؤر الآدميّ وما يؤكل لحمه طاهر، لأنّ المختلط به اللّعاب، وقد تولّد من لحم طاهر فيكون طاهراً. ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر». وما دام سؤره طاهراً فاستعمال آنيته جائز من باب أولى. واستدلّوا بما روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد» وكانوا مشركين، ولو كان عين المشرك نجساً لما فعل ذلك. ولا يعارض بقوله تعالى {إنّما المشركون نجس} لأنّ المراد به النّجس في الاعتقاد، ومن باب أولى أهل الكتاب وآنيتهم. وذلك لقوله تعالى {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم} وروى عبد اللّه بن مغفّل، قال: «دلّي جراب من شحم يوم خيبر، فالتزمته وقلت: واللّه لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. فالتفتّ فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبتسم». وروى أنس «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ بخبز شعير وإهالة سنخة». وتوضّأ عمر من جرّة نصرانيّة. وصرّح القرافيّ من المالكيّة في الفروق بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الّذين لا يصلّون ولا يستنجون ولا يتحرّزون من النّجاسات، من الأطعمة وغيرها، محمول على الطّهارة، وإن كان الغالب عليه النّجاسة. ومذهب الشّافعيّة، وهو رواية أخرى للحنابلة، أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب، إلاّ أن يتيقّن طهارتها، فلا كراهة، وسواء المتديّن باستعمال النّجاسة وغيره. ودليلهم ما روى «أبو ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه قال قلت: يا رسول اللّه، إنّا بأرض أهل كتاب، أنأكل في آنيتهم ؟ فقال: لا تأكلوا في آنيتهم إلاّ إن لم تجدوا عنها بدّاً، فاغسلوها بالماء، ثمّ كلوا فيها». وأقلّ أحوال النّهي الكراهة، ولأنّهم لا يجتنبون النّجاسة، فكره لذلك. على أنّ الشّافعيّة يرون أنّ أوانيهم المستعملة في الماء أخفّ كراهةً. 15 - آنية المشركين: يستفاد من أقوال الفقهاء الّتي تقدّم بيانها أنّ أواني غير أهل الكتاب كأواني أهل الكتاب في حكم استعمالها عند الأئمّة أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وبعض الحنابلة. وبعض الحنابلة يرون أنّ ما استعمله الكفّار من غير أهل الكتاب من الأواني لا يجوز استعمالها لأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم. وذبائحهم ميتة، فتكون نجسةً.
16 - فقهاء المذاهب مختلفون في حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة: فمذهب الحنفيّة، وهو قول عند المالكيّة، والصّحيح عند الشّافعيّة، أنّه يجوز اقتناء آنية الذّهب والفضّة، لجواز بيعها، ولاعتبار شقّها بعد بيعها عيباً. ومذهب الحنابلة، وهو القول الآخر للمالكيّة، والأصحّ عند الشّافعيّة، حرمة اتّخاذ آنية الذّهب والفضّة، لأنّ ما حرم استعماله مطلقاً حرم اتّخاذه على هيئة الاستعمال.
17 - من يرى جواز اقتناء أواني الذّهب والفضّة يرى أنّ إتلافها موجب للضّمان. أمّا على القول بعدم الجواز فإنّ إتلافها لا يوجب ضمان الصّنعة إن كان يقابلها شيء من القيمة. والكلّ مجمع على ضمان ما يتلفه من العين.
18 - آنية الذّهب والفضّة إذا بلغ كلّ منهما النّصاب وحال الحول عليه وجبت فيه الزّكاة، وتفصيل ذلك موطنه أبواب الزّكاة.
انظر: إياس. 1 - الآية لغةً: العلامة والعبرة، وشرعاً هي جزء من سورة من القرآن تبيّن أوّله وآخره توقيفاً. والفرق بين الآية والسّورة أنّ السّورة لا بدّ أن يكون لها اسم خاصّ بها، ولا تقلّ عن ثلاث آيات. وأمّا الآية فقد يكون لها اسم كآية الكرسيّ، وقد لا يكون، وهو الأكثر. وقد استعمل الفقهاء الآية بالمعنى اللّغويّ أيضاً، حين أطلقوا على الحوادث الكونيّة، كالزّلازل والرّياح والكسوف والخسوف، إلخ، اسم الآيات.
2 - بما أنّ الآية جزء من القرآن الكريم فإنّ أحكامها تدور في الجملة على أنّه هل تجري عليها أحكام المصحف أو لا ؟ وذلك كما لو كتبت آية من القرآن على لوح فهل يجوز للمحدث مسّه ؟ من الفقهاء من منعه اعتباراً بما فيه من قرآن، ومنهم من أجازه لعدم شبهه بالمصحف. كما اختلف الفقهاء في إجزاء قراءة الآية الواحدة في الصّلاة، على تفصيل لهم في ذلك.
3 - الطّهارة: يتعرّض الفقهاء لحكم مسّ المحدث للوح كتبت عليه آية أو آيات، في كتاب الطّهارة - ما يحرم بالحدث. الصّلاة: تعرّض الفقهاء لحكم قراءة الآية القرآنيّة أو الآيات في الصّلاة، في صفة الصّلاة، وعند الكلام على مستحبّات الصّلاة. وذكروا كذلك ما يتّصل بتلاوة الآية من أحكام، كالتّنكيس للآي، وعدّها بالأصابع، والسّؤال والتّسبيح والتّعوّذ عند آية الرّحمة أو آية العذاب، وتكرار الآية الواحدة، وقراءة الآيات من أثناء سورة. كما ذكروا حكم قراءة خطيب الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء للآية في الخطبة في صلاة الجمعة، وفي صلاة العيدين، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء. كما ذكر بعض الفقهاء حكم الصّلاة عند حدوث الآيات الكونيّة في صلاة الكسوف. سجدة التّلاوة: يذكر تفصيل أحكام تلاوة آية السّجدة في مبحث سجدة التّلاوة. حكم الآية في مواضع متفرّقة: حكم الاستعاذة والبسملة قبل تلاوة الآية فصّله الفقهاء في مبحث الاستعاذة من صفة الصّلاة. وتتعرّض كتب الأذكار والآداب لتلاوة آيات معيّنة من القرآن الكريم في حالات خاصّة، كقراءة آية الكرسيّ قبل النّوم، وبعد الصّلاة إلخ.
1 - الأب: الوالد، وهو إنسان تولّد من نطفته إنسان آخر. وله جموع، أفصحها: آباء، بالمدّ. وفي الاصطلاح: هو رجل تولّد من نطفته المباشرة على وجه شرعيّ، أو على فراشه إنسان آخر. ويطلق الأب من الرّضاع على من نسب إليه لبن المرضع، فأرضعت منه ولداً لغيره، ويعبّرون عنه بلبن الفحل.
2 - لمّا كان الأب والولد كالشّيء الواحد، لأنّ الولد بعض أبيه، كان للأب اختصاص ببعض الأحكام في النّفس والمال، وترجع في جملتها إلى التّراحم والمسئوليّة. وذلك كواجبه في الحفاظ على الولد، والنّفقة عليه، فقد اتّفقوا على أنّه يجب على الأب نفقة الولد في الجملة. على تفصيل يرجع إليه في مباحث النّفقة. واتّفقوا على أنّ للأب حقّ الولاية في تزويج بنته على خلاف بينهم في البكر والثّيّب. ويقدّم على جميع الأولياء إلاّ الابن، فإنّه يقدّم على الأب عند جمهور الفقهاء. وفي هذه المسألة خلاف الحنابلة، فإنّ الأب عندهم مقدّم في ولاية التّزويج. واتّفقوا على أحقّيّة الأب في الولاية على مال الصّغير، أو المجنون، أو السّفيه من أولاده. كما اتّفقوا على أنّه لا يجب القصاص على الأب بقتل ولده، على تفصيل عند المالكيّة. واتّفقوا على أنّ الأب أحد الأفراد السّتّة، الّذين لا يحجبون عن الميراث حجب حرمان بغيرهم بحال، وهم الأبوان والزّوجان والابن والبنت، وأنّه يرث تارةً بالفرض، وتارةً بالتّعصيب، وتارةً بهما معاً.
3 - تكثر المسائل الفقهيّة الّتي تتّصل بالأب، وتفصّل أحكامها في مواطنها من كتب الفقه، وذلك في: الإرث، والعقيقة، والولاية، والهبة، والوصيّة، والعتق، ومحرّمات النّكاح، والنّفقة، والقصاص، والأمان، والشّهادة، والإقرار.
1 - الإباحة في اللّغة: الإحلال، يقال: أبحتك الشّيء أي أحللته لك. والمباح خلاف المحظور. وعرّف الأصوليّون الإباحة بأنّها خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين تخييراً من غير بدل. وعرّفها الفقهاء بأنّها الإذن بإتيان الفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن. وقد تطلق الإباحة على ما قابل الحظر، فتشمل الفرض والإيجاب والنّدب.
الجواز 2 - اختلف الأصوليّون في الصّلة بين الإباحة والجواز، فمنهم من قال: إنّ الجائز يطلق على خمسة معان: المباح، وما لا يمتنع شرعاً، وما لا يمتنع عقلاً، أو ما استوى فيه الأمران، والمشكوك في حكمه كسؤر الحمار، ومنهم من أطلقه على أعمّ من المباح، ومنهم من قصره عليه، فجعل الجواز مرادفاً للإباحة. والفقهاء يستعملون الجواز فيما قابل الحرام، فيشمل المكروه. وهناك استعمال فقهيّ لكلمة الجواز بمعنى الصّحّة، وهي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع، والجواز بهذا الاستعمال حكم وضعيّ، وبالاستعمالين السّابقين حكم تكليفيّ. الحلّ: 3 - الإباحة، فيها تخيير، أمّا الحلّ فإنّه أعمّ من ذلك شرعاً، لأنّه يطلق على ما سوى التّحريم، وقد جاء مقابلاً له في القرآن والسّنّة، كقوله تعالى: {وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا} وقوله: {يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك} وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أما إنّي واللّه لا أحلّ حراماً ولا أحرّم حلالاً». ولمّا كان الحلال مقابلاً للحرام شمل ما عداه من المباح والمندوب والواجب والمكروه مطلقاً عند الجمهور، وتنزيهاً عند أبي حنيفة. ولهذا قد يكون الشّيء حلالاً ومكروهاً في آن واحد، كالطّلاق، فإنّه مكروه، وإن وصفه الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنّه حلال، وعلى ذلك يكون كلّ مباح حلالاً ولا عكس. الصّحّة: 4 - الصّحّة هي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع. ومعنى كونه ذا وجهين أنّه يقع تارةً موافقاً للشّرع، لاشتماله على الشّروط الّتي اعتبرها الشّارع، ويقع تارةً أخرى مخالفاً للشّرع. والإباحة الّتي فيها تخيير بين الفعل والتّرك مغايرة للصّحّة. وهما، وإن كانا من الأحكام الشّرعيّة، إلاّ أنّ الإباحة حكم تكليفيّ، والصّحّة حكم وضعيّ على رأي الجمهور. ومنهم من يردّ الصّحّة إلى الإباحة فيقول: إنّ الصّحّة إباحة الانتفاع. والفعل المباح قد يجتمع مع الفعل الصّحيح، فصوم يوم من غير رمضان مباح، أي مأذون فيه من الشّرع، وهو صحيح إن استوفى أركانه وشروطه. وقد يكون الفعل مباحاً في أصله وغير صحيح لاختلال شرطه، كالعقود الفاسدة. وقد يكون صحيحاً غير مباح كالصّلاة في ثوب مغصوب إذا استوفت أركانها وشروطها عند أكثر الأئمّة. التّخيير: 5 - الإباحة تخيير من الشّارع بين فعل الشّيء وتركه، مع استواء الطّرفين بلا ترتّب ثواب أو عقاب، أمّا التّخيير فقد يكون على سبيل الإباحة، أي بين فعل المباح وتركه، وقد يكون بين الواجبات بعضها وبعض، وهي واجبات ليست على التّعيين، كما في خصال الكفّارة في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} فإنّ فعل أيّ واحد منها يسقط المطالبة، لكنّ تركها كلّها يقتضي الإثم. وقد يكون التّخيير بين المندوبات كالتّنفّل قبل صلاة العصر، فالمصلّي مخيّر بين أن يتنفّل بركعتين أو بأربع. والمندوب نفسه في مفهومه تخيير بين الفعل والتّرك، وإن رجّح جانب الفعل، وفيه ثواب، بينما التّخيير في الإباحة لا يرجّح فيه جانب على جانب، ولا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب. العفو: 6 - من العلماء من جعل العفو الّذي رفعت فيه المؤاخذة، ونفي فيه الحرج، مساوياً للإباحة، كما جاء في الحديث «إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وعفا عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها». وهو ما يدلّ عليه قوله تعالى {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم عفا اللّه عنها}. فما عفا اللّه عنه لم يكلّفنا به فعلاً أو تركاً، ولم يرتّب عليه مثوبةً ولا عقاباً. وهو بهذا مساو للمباح.
7 - الإباحة إمّا بلفظ أو غيره، سواء من الشّارع أو من العباد. فمثال غير اللّفظ من الشّارع أن يرى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلاً من الأفعال، أو يسمع قولاً، فلا ينكره، فيكون هذا تقريراً يدلّ على الإباحة. ومثاله من العباد أن يضع الشّخص مائدةً عامّةً ليأكل منها من يشاء. وأمّا اللّفظ فقد يكون صريحاً، ومن ذلك نفي الجناح ونفي الإثم أو الحنث أو السّبيل أو المؤاخذة. وقد يكون غير صريح، وهو الّذي يحتاج في دلالته على الإباحة إلى قرينة. ومن ذلك: الأمر بعد الحظر، كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} ومنه الأمر المقترن بالمشيئة، والتّعبير بالحلّ أو نفي التّحريم أو الاستثناء من التّحريم.
الشّارع 8 - الأصل أنّ حقّ الإباحة للشّارع وحده من غير توقّف على إذن من أحد، وقد تكون الإباحة مطلقةً كالمباحات الأصليّة، وقد تكون مقيّدةً إمّا بشرط كما في قوله تعالى {أو ما ملكتم مفاتحه} في شأن ما يباح أكله من ملك الغير من غير ضرورة، أو مقيّدةً بوقت كإباحة أكل الميتة للمضطرّ (العباد): 9 - الإباحة من العباد لا بدّ فيها أن تكون على وجه لا يأباه الشّرع، وألاّ تكون على وجه التّمليك، وإلاّ كانت هبةً أو إعارةً. وإذا كانت الإباحة من وليّ الأمر فالمدار فيها - بعد الشّرطين السّابقين - أن تكون منوطةً بالمصلحة العامّة. وهذه الإباحة قد تكون في واجب يسقط بها عنه، كمن عليه كفّارة، واختار التّكفير بالإطعام، فإنّ الدّعوة إلى تناوله إباحة تسقط عنه الكفّارة، إذ هو مخيّر فيها بين التّمليك لمن يستحقّ، وبين الإباحة. وهذا عند بعض الفقهاء كالحنفيّة، خلافاً للشّافعيّة ومن وافقهم الّذين يرون أنّ الإطعام في الكفّارة يجب فيه التّمليك. والإنسان يعرف إذن غيره إمّا بنفسه، وإمّا بإخبار ثقة يقع في القلب صدقه. فلو قال مملوك مثلاً: هذه هديّة بعث بها إليك سيّدي، أو قال صبيّ: هذه هديّة بعث بها إليك والدي، قبل قولهما في حلّها، لأنّ الهدايا تبعث في العادة على أيدي هؤلاء. دليل الإباحة وأسبابها: 10 - قد يوجد فعل من الأفعال لم يدلّ الدّليل السّمعيّ على حكمه بخصوصه، وذلك صادق بصورتين: الأولى عدم ورود دليل لهذا الفعل أصلاً، والثّانية وروده ولكنّه جهل. وأكثر الأفعال دلّ الدّليل السّمعيّ عليها وعرف حكمها، وتفصيل ذلك فيما يلي: أ - (البقاء على الأصل): 11 - وهذا ما يعرف بالإباحة الأصليّة، وجمهور العلماء على أنّه لا حرج على من تركه أو فعله. ويظهر أثر ذلك فيما كان قبل البعثة. وهناك تفصيلات بين علماء الكلام في هذه المسألة يرجع إليها في الملحق الأصوليّ، أو في كتب علم الكلام. وهذا الخلاف لا محصّل له الآن بعد ورود البعثة، إذ دلّ النّصّ من كتاب اللّه على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة. قال تعالى: {وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}. ب - (ما جهل حكمه): 12 - قد يكون الجهل مع وجود الدّليل، ولكنّ المكلّف - مجتهداً أو غير مجتهد - لم يطّلع عليه، أو اطّلع عليه المجتهد ولم يستطع استنباط الحكم. والقاعدة في ذلك أنّ الجهل بالأحكام الشّرعيّة إنّما يكون عذراً إذا تعذّر على المكلّف الاطّلاع على الدّليل، وكلّ من كان في إمكانه الاطّلاع على الدّليل وقصّر في تحصيله لا يكون معذوراً. ويفصّل الفقهاء أحكام هذه المسألة في مواطنها. ومن عذر بجهله فهو غير مخاطب بحكم الفعل، فلا يوصف فعله بالإباحة بالمعنى الاصطلاحيّ الّذي فيه خطاب بالتّخيير. وإن كان الإثم مرفوعاً عنه بعذر الجهل. وتفصّل هذه الأحكام في مواطنها في بحث (الجهل). وينظر في الملحق الأصوليّ.
13 - طرق معرفة الإباحة كثيرة، من أهمّها: النّصّ: وقد تقدّم الكلام عليه تفصيلاً. بعض أسباب الرّخص: والرّخصة هي ما شرع لعذر شاقّ استثناءً من أصل كلّيّ يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه مع بقاء حكم الأصل. وذلك كالإفطار في رمضان في السّفر، والمسح على الخفّين، على تفصيل للفقهاء يرجع إليه في مواطنه. النّسخ: وهو رفع الحكم الشّرعيّ بنصّ شرعيّ متأخّر. والّذي يهمّنا هنا هو نسخ الحظر بنصّ شرعيّ متأخّر فيما كان مباحاً قبل الحظر، مثل جواز الانتباذ في الأوعية بعد حظره، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا، واجتنبوا كلّ مسكر» فالأمر بالنّبذ بعد النّهي عنه يفيد رفع الحرج، وهو معنى الإباحة. العرف. والمختار في تعريفه أنّه ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول. وهو دليل كاشف إذا لم يوجد نصّ ولا إجماع على اعتباره أو إلغائه، كالاستئجار بعوض مجهول لا يفضي إلى النّزاع. الاستصلاح (المصلحة المرسلة): هي كلّ مصلحة غير معتبرة ولا ملغاة بنصّ من الشّارع بخصوصها، يكون في الأخذ بها جلب منفعة أو دفع ضرر، كمشاطرة عمر رضي الله عنه أموال الّذين اتّهمهم بالإثراء بسبب عملهم للدّولة، وهذا حتّى يضع مبدأً للعمّال ألاّ يستغلّوا مراكزهم لصالح أنفسهم.
14 - متعلّق الإباحة اهتمّ به الفقهاء، وتحدّثوا عن أقسامه وفروعه، فقسّموه من حيث مصدر الإباحة إلى قسمين: ما أذن فيه الشّارع، وما أذن فيه العباد. ومن حيث نوع الإباحة إلى قسمين أيضاً: ما فيه تملّك واستهلاك وانتفاع، وما فيه استهلاك وانتفاع دون تملّك. ولكلّ قسم حكمه، وبيانه فيما يأتي.
15 - المأذون به من الشّارع ما ورد دليل على إباحته من نصّ أو من مصدر من مصادر التّشريع الأخرى. والحديث هنا سيكون عن المأذون فيه إذناً عامّاً لا يختصّ ببعض الأفراد دون بعضهم الآخر. وفي ذلك مطلبان: مطلب للمأذون فيه على وجه التّملّك والاستهلاك، وهو المسمّى عند الفقهاء بالمال المباح، ومطلب للمأذون فيه على وجه الانتفاع فقط، وهو المسمّى بالمنافع العامّة. المطلب الأوّل ما أذن فيه الشّارع على وجه التّملّك والاستهلاك 16 - المال المباح هو كلّ ما خلقه اللّه لينتفع به النّاس على وجه معتاد، وليس في حيازة أحد، مع إمكان حيازته، ولكلّ إنسان حقّ تملّكه، سواء أكان حيواناً أم نباتاً أم جماداً. والدّليل على ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم. «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له». وهذا التّملّك لا يستقرّ إلاّ عند الاستيلاء الحقيقيّ، الّذي ضبطوه بوضع اليد على الشّيء المباح، أي الاستيلاء الفعليّ، أو كونه في متناول اليد، وهو الاستيلاء بالقوّة. وقد قال العلماء: إنّ هذا الاستيلاء بإحدى صورتيه لا يحتاج إلى نيّة وقصد في استقرار الملكيّة، كما قالوا: إنّ الاستيلاء بوساطة آلة وحرفة ومهارة يحتاج إلى القصد ليكون استيلاءً حقيقيّاً، وإلاّ كان استيلاءً حكميّاً. جاء في الفتاوى الهنديّة، فيمن علّق كوزه، أو وضعه في سطحه، فأمطر السّحاب وامتلأ الكوز من المطر، فأخذه إنسان، فالحكم هو استرداد الكوز، لأنّه ملك صاحبه، وأمّا الماء فإن كان صاحب الكوز قد وضعه من أجل جمع الماء فيستردّ الماء أيضاً، لأنّ ملكه حقيقيّ حينئذ، فإن لم يضعه لذلك لم يستردّه. ومن أمثلة الأموال المباحة الماء والكلأ والنّار والموات والرّكاز والمعادن والحيوانات غير المملوكة. ولكلّ أحكامه.
17 - وهو ما يسمّى بالمنافع العامّة، الّتي جعل اللّه إباحتها تيسيراً على عباده، ليتقرّبوا إليه فيها، أو ليمارسوا أعمالهم في الحياة مستعينين بها، كالمساجد، والطّرق. ويرجع لمعرفة تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما.
18 - إباحة العباد كذلك على نوعين: نوع يكون التّسليط فيه على العين لاستهلاكها، ونوع يكون التّسليط فيه على العين للانتفاع بها فقط. إباحة الاستهلاك: 19 - لهذه الإباحة جزئيّات كثيرة نكتفي منها بما يأتي: أ - الولائم بمناسباتها المتعدّدة والمباح فيها الأكل والشّرب دون الأخذ. ب - الضّيافة. ويرجع في تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما. إباحة الانتفاع: 20 - هذا النّوع من الإباحة قد يكون مع ملك الآذن لعين ما أذن الانتفاع به كإذن مالك الدّابّة أو السّيّارة لغيره بركوبها، وإذن مالك الكتب للاطّلاع عليها. وقد يكون الإذن فيما لا يملك عينه، ولكن يملك منفعته بمثل الإجارة أو الإعارة، إن لم يشترط فيهما أن يكون الانتفاع شخصيّاً للمستأجر والمستعير. تقسيمات الإباحة: 21 - للإباحة تقسيمات شتّى باعتبارات مختلفة، وقد تقدّم أكثرها. وبقي الكلام عن تقسيمها من حيث مصدرها ومن حيث الكلّيّة والجزئيّة:
أ - تقسيمها من حيث مصدرها: 22 - تقسّم بهذا الاعتبار إلى إباحة أصليّة، بألاّ يرد فيها نصّ من الشّارع، وبقيت على الأصل، وقد سبق بيانها. وإباحة شرعيّة: بمعنى ورود نصّ من الشّارع بالتّخيير، وذلك إمّا ابتداءً كإباحة الأكل والشّرب، وإمّا بعد حكم سابق مخالف، كما في النّسخ، أو الرّخص، وقد سبق. على أنّه ممّا ينبغي ملاحظته أنّه بعد ورود الشّرع أصبحت الإباحة الأصليّة إباحةً شرعيّةً لقول اللّه تعالى {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} وقوله: {وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه} فإنّ هذا النّصّ يدلّ على أنّ كلّ ما خلقه اللّه يكون مباحاً إلاّ ما ورد دليل يثبت له حكماً آخر، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في الملحق الأصوليّ. وقد يكون مصدر الإباحة إذن العباد بعضهم لبعض على ما سبق. (ف 9).
ب - تقسيمها باعتبار الكلّيّة والجزئيّة: 23 - تنقسم أربعة أقسام: 1 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة الوجوب، كالأكل مثلاً، فيباح أكل نوع وترك آخر ممّا أذن به الشّرع، ولكنّ الامتناع عن الأكل جملةً حرام لما يترتّب عليه من الهلاك. 2 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة النّدب، كالتّمتّع بما فوق الحاجة من طيّبات الأكل والشّرب، فذلك مباح يجوز تركه في بعض الأحيان، ولكنّ هذا التّمتّع مندوب إليه باعتبار الكلّ، على معنى أنّ تركه جملةً يخالف ما ندب إليه الشّرع من التّحدّث بنعمة اللّه والتّوسعة، كما في حديث «إنّ اللّه تعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» وكما قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه إذا أوسع اللّه عليكم فأوسعوا على أنفسكم. 3 - إباحة للجزء مع التّحريم باعتبار الكلّ، كالمباحات الّتي تقدح المداومة عليها في العدالة، كاعتياد الحلف، وشتم الأولاد، فذلك مباح في الأصل، لكنّه محرّم بالاعتياد. 4 - إباحة للجزء مع الكراهة باعتبار الكلّ، كاللّعب المباح، فإنّ ذلك وإن كان مباحاً بالأصل إلاّ أنّ المداومة عليه مكروهة.
24 - إذا ثبتت الإباحة ثبت لها من الآثار ما يلي: 1 - رفع الإثم والحرج. وذلك ما يدلّ عليه تعريف الإباحة بأنّه لا يترتّب على الفعل المباح إثم. 2 - التّمكين من التّملّك المستقرّ بالنّسبة للعين، والاختصاص بالنّسبة للمنفعة: وذلك لأنّ الإباحة طريق لتملّك العين المباحة. هذا بالنّسبة للعين. أمّا بالنّسبة للمنفعة المباحة فإنّ أثر الإباحة فيها اختصاص المباح له بالانتفاع، وعبارات الفقهاء في المذاهب المختلفة تتّفق في أنّ تصرّف المأذون له في طعام الوليمة قبل وضعه في فمه لا يجوز بغير الأكل، إلاّ إذا أذن له صاحب الوليمة أو دلّ عليه عرف أو قرينة. وبهذا تفارق الإباحة الهبة والصّدقة بأنّ فيهما تمليكاً، كما أنّها تفارق الوصيّة حيث تكون هذه مضافةً إلى ما بعد الموت، ولا بدّ فيها من إذن الدّائنين، والورثة أحياناً، كما لا بدّ من صيغة في الوصيّة. 25 - هذه هي آثار الإباحة للأعيان في إذن العباد. أمّا آثار الإباحة للمنافع فإنّ إباحتها لا تفيد إلاّ حلّ الانتفاع فقط، على ما تقدّم تفصيله. فحقّ الانتفاع المجرّد من قبيل التّرخيص بالانتفاع الشّخصيّ دون الامتلاك، وملك المنفعة فيه اختصاص حاجز لحقّ المستأجر من منافع المؤجّر، فهو أقوى وأشمل، لأنّ فيه حقّ الانتفاع وزيادةً. وآثار ذلك قد تقدّم الكلام عليها.
26 - الإباحة لا تنافي الضّمان في الجملة، لأنّ إباحة اللّه - وإن كان فيها رفع الحرج والإثم - إلاّ أنّها قد يكون معها ضمان، فإباحة الانتفاع تقتضي صيانة العين المباحة عن التّخريب والضّرر، وما حدث من ذلك لا بدّ من ضمانه. وإباحة الأعيان كأخذ المضطرّ طعام غيره لا تمنع ضمان قيمته إذا كان بغير إذنه، لأنّ اللّه جعل للعبد حقّاً في ملكه، فلا ينقل الملك منه إلى غيره إلاّ برضاه، ولا يصحّ الإبراء منه إلاّ بإسقاطه، كما يقول القرافيّ في الفروق. وحكى القرافيّ في هذه المسألة قولين: أحدهما: لا يضمن، لأنّ الدّفع كان واجباً على المالك، والواجب لا يؤخذ له عوض. والقول الثّاني: يجب، وهو الأظهر والأشهر، لأنّ إذن المالك لم يوجد، وإنّما وجد إذن صاحب الشّرع، وهو لا يوجب سقوط الضّمان، وإنّما ينفي الإثم والمؤاخذة بالعقاب. أمّا إباحة العباد بعضهم لبعض فقد تقدّم الكلام عليها مفصّلاً.
27 - أوّلاً: إباحة اللّه سبحانه لا تنتهي من جهته هو، لأنّه سبحانه حيّ باق، والوحي قد انقطع، فلا وحي بعد محمّد صلى الله عليه وسلم وإنّما تنتهي بانتهاء دواعيها، كما في الرّخص، فإذا وجد السّفر في نهار رمضان مثلاً وجدت الإباحة بالتّرخيص في الفطر، فإذا انتهى السّفر انتهت الرّخصة. 28 - ثانياً: وإباحة العباد تنتهي بأمور: أ - انتهاء مدّتها إن كانت مقيّدةً بزمن، فالمؤمنون عند شروطهم، وإذا فقد الشّرط فقد المشروط. ب - رجوع الآذن في إذنه، حيث إنّه ليس واجباً عليه، فهو تبرّع منه، كما قال جمهور العلماء. وهي لا تنتهي بمجرّد الرّجوع، بل لا بدّ من علم المأذون له به، كما هو مقتضى قواعد الحنفيّة، وهو قول للشّافعيّ. وذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قولاً آخر للشّافعيّ، يفيد أنّ الإباحة تنتهي بمجرّد رجوع الآذن، ولو لم يعلم المأذون له. ج - موت الآذن لبطلان الإذن بموته، فتنتهي آثاره. د - موت المأذون له، لأنّ حقّ الانتفاع رخصة شخصيّة له لا تنتقل إلى ورثته إلاّ إذا نصّ الآذن على خلافه.
1 - الإباق لغةً: مصدر أبق العبد - بفتح الباء - يأبق ويأبق، بكسر الباء وضمّها، أبقاً وإباقاً، بمعنى الهرب. والإباق خاصّ بالإنسان سواء أكان عبداً أم حرّاً. وفي الاصطلاح: انطلاق العبد تمرّداً ممّن هو في يده من غير خوف ولا كدّ في العمل. فإن لم يكن كذلك فهو إمّا هارب، وإمّا ضالّ وإمّا فارّ. لكن قد يطلق بعض الفقهاء لفظ الآبق على من ذهب مختفياً مطلقاً لسبب أو غيره. صفة الإباق
2 - الإباق محرّم شرعاً بالاتّفاق، وهو عيب في العبد، وقد عدّه ابن حجر الهيتميّ والذّهبيّ من الكبائر، ووردت في النّهي عنه عدّة أحاديث: منها ما روى جرير بن عبد اللّه البجليّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتّى يرجع إليهم» وفي رواية «أيّما عبد أبق فقد برئت منه الذّمّة».
3 - الّذي يفهم من عبارات الفقهاء أنّه يشترط البلوغ والعقل في العبد إذا هرب ليمكن اعتباره آبقاً بالمعنى المتقدّم، أمّا من لم يعقل معنى الإباق - وهو غير العاقل البالغ - فلا يكون آبقاً، ويسمّى ضالّاً، أو لقطةً.
4 - يرى الحنفيّة والمالكيّة أنّه يجب أخذ الآبق إن خشي ضياعه وغلب على ظنّه تلفه على مولاه إن لم يأخذه، مع قدرة تامّة عليه. ويحرم عندهم أخذه لنفسه. أمّا إذا لم يخش ضياعه وقوي على أخذه فذلك مندوب عند الحنفيّة، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا: يندب لمن وجد آبقاً، وعرف ربّه، أن يأخذه، لأنّه من باب حفظ الأموال، إذا لم يخش ضياعه. أمّا إذا كان لا يعرف ربّه فإنّه يكره له أخذه لاحتياجه إلى الإنشاد والتّعريف. وعند الشّافعيّة: أخذ الآبق - بدون رضا المالك - غير جائز، ويجوز بإذنه. وعند الحنابلة: أخذ الآبق جائز، لأنّه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده واشتغاله بالفساد، بخلاف الضّوالّ الّتي تحتفظ بنفسها. صفة يد الآخذ للآبق: 5 - الّذي يفهم من عبارات الفقهاء أنّ الآبق يعتبر أمانةً بيد آخذه حتّى يردّه إلى صاحبه، ولا يضمنه إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط، وأنّه إذا لم يجد سيّده دفعه إلى الإمام أو نائبه. الإنفاق على الآبق أثناء إباقه: 6 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ آخذ الآبق إذا أنفق عليه بدون إذن الحاكم يكون متبرّعاً، فلا يرجع على سيّده بما أنفق فإن كان بإذنه فله الرّجوع. ويشترط في الإذن عند الحنفيّة أن يقول: على أن ترجع بما أنفقت عليه. وقال الشّافعيّة: إن لم يجد الحاكم أشهد أنّه أنفق ليرجع بما أنفق. ويرى المالكيّة: أنّ نفقة الآبق في رقبته، لا في ذمّه سيّده. ويرى الحنابلة: أنّه إذا أنفق عليه آخذه ليردّه على سيّده فإنّ نفقته تكون على سيّده يأخذها منه عند ردّه. ضمان ما يتلفه الآبق: 7 - اتّفق الفقهاء على أنّ جناية العبد الآبق على شيء كجنايته قبل الإباق، لأنّه في حال الإباق لا يزال في ملك سيّده. وجنايته إمّا أن تكون إتلافاً لنفس، أو لجزء من آدميّ، وإمّا أن تكون إتلافاً لمال. فإن قتل نفساً عمداً بغير حقّ وجب عليه القصاص، إلاّ إذا رضي وليّ الدّم بالعفو عن العبد وتصالح على مال، فيكون الواجب المال المصالح عليه، فإمّا أن يدفع به إلى أولياء الدّم أو يفديه سيّده. أمّا إذا أتلف جزءاً من آدميّ أو أتلف مالاً، فلكلّ مذهب من المذاهب الأربعة رأيه في بيان هذا الحكم، يرجع إليه في باب الضّمان. دية الآبق لمن تكون 8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الآبق لا يزال مملوكاً لسيّده، فإذا قتل على وجه يستوجب الدّية، أو أتلف من بدنه ما يستوجب الأرش، فديته وأرش الجناية عليه لسيّده.
9 - يجوز - اتّفاقاً - للمالك بيع عبده الآبق إذا قدر على تسليمه للمشتري، كما يجوز للقاضي بيع الآبق إذا دفع إليه ورأى المصلحة في بيعه بعد أن يحبسه، على خلاف في مدّة حبسه بين المذاهب. وليس لآخذ الآبق أن يبيعه لأنّه ليس ملكاً له عند من يقول بمنع بيع الفضوليّ ولأنّ المالك مجهول عند من يقول بصحّة بيعه. اعتبار الإباق عيباً في العبد: 10 - الإباق في العبد والأمة عيب يردّ به المبيع، وتفصيل ذلك في خيار العيب. إباق العبد من آخذه: 11 - تقدّم القول (ف 5) أنّ يد آخذ الآبق يد أمانة. وعلى ذلك فإنّه إذا هرب منه، من غير تعدّ ولا تفريط، فلا ضمان عليه. عتق الآبق قبل ردّه: 12 - أجمع الفقهاء على أنّ مولى العبد الآبق لو أعتقه حال إباقه وقبل تسلّمه من آخذه نفذ عتقه. ردّ الآبق والجعل فيه: 13 - يؤخذ من تعريف الجعل - عند الفقهاء - أنّه مقدار من المال يستحقّه من ردّ آبقاً أو ضالّةً نظير قيامه بهذا العمل. واختلفوا في مقدار الجعل: فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ مقدار الجعل المستحقّ لرادّ الآبق هو ما سمّاه الجاعل، أو ما تمّ الاتّفاق عليه بين الآذن بالعمل والعامل. غير أنّ الحنابلة قالوا: إن كان المسمّى أقلّ ممّا قدّره الشّارع وهو دينار أو اثنا عشر درهماً - فلرادّ الآبق ما قدّره الشّارع على أحد قولين، والقول الآخر أنّه يؤخذ بالمسمّى بالغاً ما بلغ. وفي ذلك تفصيل وخلاف أصبح ممّا لا حاجة إليه. ويرى الحنفيّة أنّ أقصى مقدار الجعل هو ما قدّره الشّارع وهو أربعون درهماً، إذا كان من مسافة قصر فأكثر، لورود أثر عن ابن مسعود بذلك التّقدير. تصرّفات الآبق: 14 - تصرّفات الآبق إمّا أن تكون ممّا تنفذ عليه في الحال، كالطّلاق، وإمّا أن يكون لها اتّصال بالمال وحقوق الغير، كالزّواج والإقرار والهبة. فالّتي تنفذ عليه في الحال صحيحة نافذة. وأمّا تصرّفاته الّتي تترتّب عليها التزامات ماليّة، كالنّكاح والإقرار والهبة.. إلخ، فإنّها تقع موقوفةً على إذن السّيّد، سواء كانت قوليّةً أم فعليّةً.
15 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أبق العبد من المستعير أو المستأجر أو الوصيّ فإنّه لا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط، لأنّ يد كلّ واحد من هؤلاء يد أمانة. ولو أبق العبد من غاصبه فإنّ الغاصب يكون ضامناً، لتعدّيه، فيلزمه قيمة العبد يوم غصبه. أمّا إن أبق من مرتهنه، فإن كان بتعدّ أو تفريط فهو مضمون عليه إجماعاً، وإن كان بغير تعدّ ولا تفريط فالجمهور على أنّه غير مضمون، لأنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن، خلافاً للحنفيّة، فهو مضمون عندهم بالأقلّ من قيمته ومن الدّين.
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ زوجة العبد الآبق لا يصحّ زواجها حتّى يتحقّق موته أو طلاقه أو يحكم بتطليقها منه للغيبة أو لعدم الإنفاق. وفي ذلك تفصيل موطنه أحكام المفقود والطّلاق. إباق العبد من الغنيمة قبل القسمة: 17 - من الأصول العامّة المتّفق عليها بين الفقهاء أنّ الغنيمة قبل القسمة أموال عامّة للمسلمين، ولا تدخل في ملكيّة الغانمين إلاّ بعد القسمة. وعلى هذا فلو أبق عبد من الغنيمة قبل القسمة فإنّه يطلب في مظانّه، ويبحث عنه، ويعلن عن جعل لمن يردّه يصرف من بيت المال أو من الغنيمة نفسها. فإذا عاد الآبق تجرى عليه القسمة كباقي الأموال.
18 - إذا جاء من يدّعي ملكيّة الآبق، فلا يخلو الحال: إمّا أن يكون الآبق تحت يد القاضي، أو تحت يد ملتقطه وآخذه. فإن كان تحت يد القاضي، فإنّ الفقهاء يرون أنّ القاضي لا يسلّمه لمدّعيه إلاّ ببيّنة قاطعة، تصف العبد، وتقرّر أنّه عبد لمدّعيه ولم يهبه ولم يبعه، أو لا يعلم أنّه باعه أو وهبه. فإن تحقّق ذلك سلّمه القاضي لمدّعيه. وزاد أبو يوسف من الحنفيّة استحلافه. أمّا إذا كان الآبق في يد ملتقطه، فيرى الحنفيّة أنّه لا يدفعه إلى مدّعيه إلاّ بأمر القاضي ويرى المالكيّة: أنّه يدفعه إليه بشاهد ويمين. ويرى الشّافعيّة والحنابلة: جواز أن يدفعه إلى مدّعيه ببيّنة يقيمها المدّعي، أو اعتراف العبد أنّه سيّده، لكنّ الأحوط ألاّ يدفعه إلاّ بأمر الحاكم.
19 - يرى الحنفيّة أنّه لا يجب على السّيّد أن يدفع زكاة الفطر عن عبده الآبق. وهو مذهب عطاء والثّوريّ. ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ زكاة الفطر تجب عن العبد الآبق، على تفصيل عندهم في ذلك، موطنه صدقة الفطر. وأوجبها كذلك أبو ثور وابن المنذر، والزّهريّ إذا علم مكانه، والأوزاعيّ إن كان في دار الإسلام.
20 - تقدّم الكلام في أنّ الإباق محرّم شرعاً، وعدّه بعضهم من الكبائر (ر: ف 2)، وبما أنّه لا حدّ فيه يعزّر فاعله. ويكون التّعزير هنا من الحاكم أو السّيّد.
|